أصبحت البنوك المركزية الدعامة الأساسية لاستقرار الاقتصاد العالمي، خلال العقد الماضي، حيث كان يُنظر إلى استقلالها كحاجز ضد تقلبات السياسات القصيرة المدى، ولكن كما حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد في يناير كانون الثاني 2025، فإن هذا الاستقلال أصبح الآن معرضاً للخطر.
وتهدد الضغوط السياسية، والتوترات الجيوسياسية، والصراعات الإيديولوجية القدرة الذاتية للمؤسسات المصممة لعزل السياسة النقدية عن الأجندات الحزبية، بالنسبة للمستثمرين، فإن التداعيات كبيرة عالم تفقد فيه البنوك المركزية استقلالها قد يؤدي إلى موجة من التقلبات في تقييم الأصول وفعالية السياسات النقدية.
تحذيرات لاغارد دعوة للتحرك
أوضحت لاغارد في مؤتمر البنك المركزي الهنغاري أوائل 2025 أن 80% من البنوك المركزية عالمياً كانت تتمتع بالاستقلال التشغيلي بحلول العقد الأول من الألفية، إلا أن التدخل السياسي ازداد خلال السنوات الأخيرة.
واجه نحو نصف البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى بين 2018 و2020، ضغوطاً سياسية سنوية، وهو اتجاه تفاقم بسبب أحداث مثل حرب أوكرانيا وصدمة التضخم عام 2022.
وأشارت لاغارد إلى أمثلة مثل مطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب علناً بتخفيض أسعار الفائدة، ما يبرز كيف أصبح القادة السياسيون يتعاملون مع البنوك المركزية كأدوات لتحقيق مكاسب قصيرة المدى، وليس لضمان استقرار طويل الأمد.
كما شددت على أن التدخل السياسي يهدد ثقة الجمهور بالبنوك المركزية، وعندما تتآكل المصداقية، تتراجع القدرة على تثبيت توقعات التضخم، ما يخلق دائرة متكررة من زيادة التقلبات، وضعف فعالية السياسات، وفقدان ثقة المستثمرين.
وفي خطابها أمام البرلمان الأوروبي يونيو 2025، حذرت لاغارد من أن الضغوط السياسية قد تؤدي إلى اضطراب أسعار الصرف وارتفاع تكاليف الاقتراض، ما يزيد صعوبة الحفاظ على استقرار الأسعار.
تكلفة التدخل
يقدم التاريخ دروساً تحذيرية، ففي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أدت حرب البنوك في الولايات المتحدة، حيث أزال الرئيس أندرو جاكسون البنك الثاني للولايات المتحدة، إلى أزمة مالية عام 1837 تميزت بانهيار البنوك والانكماش الاقتصادي، كذلك، أظهرت أزمة ديون أميركا اللاتينية في الثمانينيات كيف يمكن لسوء الإدارة السياسية والاقتراض غير المستدام أن يؤدي إلى إفلاسات تعطل اقتصادات لعقود.
وفي آسيا، أظهرت الأزمة المالية عام 1997 مدى هشاشة الأنظمة المصرفية عند ضعف الرقابة والتدخل السياسي، حيث أدى تخفيض قيمة البات التايلاندي إلى انهيار إقليمي، مع تهديد كوريا الجنوبية وإندونيسيا بالإفلاس.
وأظهرت تدخلات البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركية الطارئة، رغم استقرارها على المدى القصير، هشاشة الأنظمة التي تفتقر للاستقلال المؤسسي.
وبالقرب من أوروبا، كشفت أزمة ديون منطقة اليورو عام 2011 عن عزلة البنك المركزي الأوروبي في غياب اتحاد مالي، حيث أرسل خطاباً حكيماً لإيطاليا يهدد بشكل ضمني بوقف شراء السندات، ما أجبر على إصلاحات سياسية ولكنه أبرز دور البنك المركزي الأوروبي كفاعل شبه مالي، ما طمس الحدود بين السياسة النقدية والسلطة السياسية، وأثار تساؤلات حول مصداقيته على المدى الطويل.
التقلب وعدم اليقين
بالنسبة للمستثمرين، يؤدي تآكل استقلالية البنوك المركزية إلى خطرين رئيسيين: ضعف فعالية السياسة النقدية وعدم استقرار تقييم الأصول، إذا لم تستطع البنوك المركزية التصرف بحرية، فقد يتفاقم التضخم، ما يجبر على رفع أسعار الفائدة بشكل مفاجئ ويؤدي إلى اضطراب الأسواق.
ويظهر ذلك بوضوح في صدمة التضخم عام 2022، حيث تمكنت البنوك المركزية المستقلة من استقرار التوقعات من خلال اتخاذ إجراءات سريعة، وفقدان الاستقلالية قد يعكس هذا التقدم ويؤدي إلى دورات تضخمية طويلة الأمد وارتفاع أسعار الخصم على الأسهم والسندات.